Menu

جامعة الدول العربية والتشريع الرسمي لسياسة التطبيع 

محمّد جبر الريفي

خاص بوابة الهدف

على طريق الدفاع عن الحقوق الوطنية الفلسطينية والحفاظ عليها من الضياع بفعل سياسة التطبيع التي تنتهجها بعض الدول العربية، وذلك خروجًا حتى عن المبادرة العربية للسلام التي أقرت في قمة بيروت عام 2002 -التي لا تلبي الحقوق الفلسطينية-، والتي تحظر على الدول العربية التطبيع مع الكيان الصهيوني قبل التوصل إلى حل سياسي عادل للقضية الفلسطينية. ففي يوم الأربعاء الماضي تم التصويت في اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي انعقد في مبنى جامعة الدول العربية بالقاهرة على المشروع الفلسطيني الذي يدين الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، ولكن ليس غريبًا أن يلاقي هذا المشروع عدم الإقرار؛ بسبب التحالف الداعم للإمارات في الاجتماع وبشكل خاص من قبل كل من البحرين والسعودية ومصر، وهو ما يعني عمليًا اعتماد سياسة جديدة في الجامعة العربية تشرع لأي دولة عربية إقامة علاقات مع إسرائيل، باعتبار أن ذلك شأنًا داخليًا، وبذلك يتأكد الدور المنوط بالجامعة العربية كونها تجمع لأنظمة سياسية تحكمها مصالح قطرية أكثر من كونها تجمع قومي في مواجهة الأخطار التي تتعرض لها الأمة، وليس هناك خطرًا أكثر من خطر المشروع الصهيوني التوسعي بالنظر إلى هدفه الاستراتيجي، حيث لن يكتفي باغتصاب فلسطين، بل يسعى لمزيد من الاستيلاء على الأراضي العربية في إطار مخطط ضم لن يقتصر على أراض في الضفة الغربية المحتلة.
في عودة إلى ظروف النشأة يتبين بجلاء بأنه لم يعد لجامعة الدول العربية التي تأسست في مصر قبل منتصف القرن الماضي بقليل وبرضا وموافقة بريطانية استعمارية بالخصوص، حيث كان النظام الملكي في مصر ما زال قائمًا، ولم تكن أيضًا الدول العربية المنضمة إلى عضويتها في ذلك الوقت أكثر من سبع دول هي التي كانت قد حصلت بالفعل على استقلال سياسي شكلي؛ لم يعد لهذه الجامعة العربية الآن كمنظمة إقليمية عربية أي قيمة سياسية تمارسها أو دور قومي هام تقوم به، فقد أثرت ظروف النشأة والتأسيس هذه على سياسة الجامعة ودورها؛ فظلت في وظيفتها على شكل تجمع رقمي للدول العربية التي لا تربط بعضها ببعضها أي مصالح سياسية واقتصادية واحدة مشتركة؛ الأمر الذي جعلها غير قادرة على تغيير الواقع العربي، مقتصرة  فى أداء عملها على مراعاة مواقف الأنظمة العربية ومتكيفة باستمرار مع مصالحها القطرية الضيقة.
ظلت الجامعة العربية كما نشأت وتأسست بدون أي تطور حقيقي يواكب روح العصر الذي  يشهد تعددًا واضحًا في ظهور الأقطاب الدولية والتكتلات السياسية والاقتصادية على مسرح السياسية العالمية، ففي الوقت الذي تطورت فيه منظمات اقليمية كالاتحاد الأوربي الذي انبثق عن السوق الأوروبية المشتركة والاتحاد الإفريقي الذي تأسس كتطور عن منظمة الوحدة الإفريقية؛ بقيت جامعة الدول العربية على شكلها وبنيتها التنظيمية الهيكلية القديمة، لذلك عجزت عن القيام بدورها القومي الفاعل في تحقيق الأهداف التي كانت مرفوعة في الماضي، حتى من قبل الأنظمة العربية نفسها كالتضامن العربي ووحدة الصف، كشعار كان له رواجًا في الحياة السياسية العربية، وذلك بعد تراجع المشروع القومي العربي وإخفاقه في تحقيق أهدافه.   
في المجال السياسي العربي لم يبقَ للجامعة العربية من دور بارز تقوم به في الحياة السياسية العربية سوى التحضير لمؤتمرات القمة العربية الدورية التي لم يشعر المواطن العربي بأهميتها؛ لأنها لا تعبر عن آمال وأهداف الجماهير العربية التي تنوء بثقل الهموم الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة، بقدر ما تعبر عن سياسات الأنظمة العربية الحاكمة ومواقفها من القضايا العربية، وهو ما عبرت عنه بجلاء ما سمي بالمبادرة العربية للسلام التي أقرت في قمة بيروت، والتي بدأت تتآكل بالخروج عنها وعدم الالتزام ببنودها من قبل الدول المطبعة، وهذا الدور المتسم بالضعف الكبير؛ يرجع في الواقع  إلى  عاملين   أساسيين  أولهما: ضعف النظام العربي الرسمي نفسه وتنافر أطرافه وعلاقته بالقوى الإقليمية والدولية، وعدم قدرته كنظام على اتخاذ قرارات سياسية مستقلة، نابعة من الإرادة القومية العليا، لذلك ظلت جامعة الدول العربية مجرد تجمع عددي ليس له استقلالية وغير قادر على اتخاذ قرارات سياسية صعبة؛ إلا إذا كانت لصالح الدول الغربية  الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، وكان قرار الجامعة بالموافقة على تدخل حلف الناتو الاستعماري في أحداث ليبيا التي أدت إلى إسقاط نظام القذافي، كدليل على توافق قرارات  الجامعة مع المصالح الحيوية الغربية التي كانت تعادي النظام الليبي السابق وتلصق به تهمة رعاية  الإرهاب الدولي.. كذلك موقف الجامعة العربية من الأزمة السورية، حيث مالت في موقفها من الصراع الداخلي في سوريا إلى موقف المعارضة السورية المدعومة من دول الخليج العربي وتركيا والدول الغربية، وألغت بذلك مقعد النظام السوري الذي يمثل الشرعية. أما ثاني العوامل في جعل الجامعة العربية عديمة القيمة في الحياة السياسية العربية، هو في صياغة بنود نظامها الداخلي الذي يجعل من دولة المقر هي المهيمنة بشكل أو بآخر على صلاحيتها واتخاذ بعض قراراتها السياسية، فمع كل التقدير لجمهورية مصر العربية ولدورها القومي التاريخي ولمكانتها الحضارية ولتعدادها السكاني الذي يقارب مائة مليون، كل التقدير لها باعتبارها الشقيقة الكبرى؛ إلا أنه لا يجوز أن يبقى النظام السياسي فيها مهما كان اتجاهه مهيمنًا على بعض قرارات الجامعة ومعطلًا لبعض صلاحيتها. 
من المعروف أن مصر تربطها اتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني ومن مصلحتها السياسية أن يتم تعميم هذه الاتفاقية على المستوى العربي، وهي ترى في التطبيع شكلًا من أشكال الاعتراف السياسي، وهو السبب الذي جعل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يعلن إشادته وتأييده لإعلان ترامب بخصوص التوصل للاتفاق الإماراتي الاسرائيلي، وهو موقف  سياسي لرئيس دولة المقر التي لها تأثيرها في صياغة القرارات، والتي يحملها ويعبر عنها موقف الأمين العام أحمد أبو الغيط "وزير الخارجية المصري الأسبق في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك"، والمعروف عنه أنه من المخلصين جدًا للعلاقة السياسية والأمنية التي تربط مصر بالكيان الصهيوني، وقد شدد في كلمته بالاجتماع على حق كل دولة السيادي في مباشرة سياستها الخارجية بالصورة التي تراها، وهذا التصريح هو بمثابة تشريع عربي رسمي للتطبيع.     هكذا بعدم إقرار المشروع الفلسطيني الذي يدين التطبيع يتبين مدى التراجع الذي أصاب البعد القومي العربي للقضية الفلسطينية، ويعود هذا التراجع لفشل المشروع القومي في تحقيق الأهداف التى رفعها في فترة الخمسينيات والستينيات، في ظل غياب الأنظمة الوطنية العربية التي شكلت يومًا؛ جبهة الصمود والتصدي في مواجهة اتفاقية كامب ديفيد، وعملت على نقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس، وكذلك خلو الساحة السياسية العربية الآن من  القادة العرب  الأقوياء الذين  لهم حضورهم السياسي والتفافهم الجماهيري، حيث ما هو موجود الآن مجموعة حكام ضعفاء، ليس لهم مكانة سياسية على المستوى العربي والإقليمي والدولي، وهمهم الأول البقاء في السلطة السياسية، والحصول على رضا واشنطن؛ من خلال التهافت على القيام بإجراءات التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهو الواقع السياسي العربي البائس الحالي الذي يخشى في ظله من تراجع وتهميش في التعاطي السياسي مع  قضية  الانتماء القومي، وذلك بالانتقال  من التمسك بالروابط اللغوية والدينية والتاريخية والجغرافية وهي العوامل التي شكلت خارطة الوطن العربي السياسية إلى السعي المحموم لتحقيق مصالح الدولة القطرية الضيقة التي نجمت عن حالة التجزئة السياسية العربية الممنهجة، وهو المخطط الإمبريالي الصهيوني الرامي إلى  خلق شرق أوسط جديد؛ تذوب فيه الرابطة القومية، ويكون تابعًا للنظام الرأسمالي الإمبريالي  العالمي بقيادة الولايات المتحدة، ويضطلع فيه الكيان الصهيوني بدور وظيفي حيوي مركزي أساسه استمرار معاداته لأمال وتطلعات شعوبنا العربية.